فصل: قال في الأمثل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال في الأمثل:

السحر في رأي التوراة:
أعمال السحر والشّعبذة في كتب العهد القديم التوراة وملحقاتها هي أيضًا ذميمة غير جائزة. فالتوراة تقول: لا تلتفتوا إلى الجان ولا تطلبوا التوابع فتنجسوا بهم وأنا الربّ إلهكم [368].
وجاء في موضع آخر من التوراة: والنفس التي تلتفت إلى الجان وإلى التوابع لتزني ورائهم اجعل وجهي ضد تلك النفس واقطعها من شعبها [369].
ويقول قاموس الكتاب المقدس: واضح أن السحر لم يكن له وجود في شريعة موسى، بل إن الشريعة شددت كثيرًا على أولئك الذين كانوا يستمدون من السحر.
ومن الطريف أن قاموس الكتاب المقدس الذي يؤكد على أن السحر مذموم في شريعة موسى، يصرح بأن اليهود تعلّموا السحر وعملوا به خلافًا لتعاليم التوراة فيقول:... ولكن مع ذلك تسرّبت هذه المادة الفاسدة بين اليهود، فآمن بها قوم، ولجأوا إليه في وقت الحاجة [370].
ولذلك ذمهم القرآن، وأدانهم لجشعهم وطمعهم وتهافتهم على متاع الحياة الدنيا.
السحر في عصرنا توجد في عصرنا مجموعة من العلوم كان السحرة في العصور السالفة يستغلونها للوصول إلى مآربهم:
1- الاستفادة من الخواص الفيزياوية والكيمياوية للأجسام، كما ورد في قصّة سحرة فرعون واستفادتهم من خواص الزئبق أو أمثاله لتحريك الحبال والعصيّ.
واضح أن الإِستفادة من الخصائص الكيمياوية والفيزياوية للأجسام ليس بالعمل الحرام، بل لابدّ من الإِطلاع على هذه الخصائص لإِستثمار مواهب الطبيعة، لكن المحرم هو استغلام هذه الخواص المجهولة عند عامة النّاس لإِيهام الآخرين وخداعهم وتضليلهم، مثل هذا العمل من مصاديق السحر، تأمل بدقة.
2- الاستفادة من التنويم المغناطيسي، والهيبنوتيزم، والمانية تيزم، والتله بآتي انتقال الأفكار من المسافات البعيدة.
هذه العلوم هي أيضًا إيجابية يمكن الإِستفادة منها بشكل صحيح في كثير من شئون الحياة. لكن السحرة كانوا يستغلونها للخداع والتضليل.
ولو استخدمت هذه العلوم اليوم أيضًا على هذا الطريق المنحرف فهي من السحر المحرّم.
بعبارة موجزة: إن السحر له معنى واسع يشمل كل ما ذكرناه هنا وما أشرنا إليه سابقًا.
ومن الثابت كذلك أن قوة الإِرادة في الإِنسان تنطوي على طاقات عظيمة. وتزداد هذه الطاقات بالرياضات النفسية، ويصل بها الأمر أنها تستطيع أن تؤثر على الموجودات المحيطة بها، وهذا مشهود في قدرة المرتاضين على القيام بأعمال خارقة للعادة نتيجة رياضاتهم النفسية.
جدير بالذكر أن هذه الرياضات تكون مشروعة تارة، وغير مشروعة تارة أخرى. الرياضات المشروعة تخلق في النفوس الطاهرة قوة إيجابية بناءة، والرياضات غير المشروعة تخلق قوة شيطانية، وقد تكون كلا القوتين قادرتين على القيام بأعمال خارقة للعادة، لكن الأولى إيجابية بناءة، والأخرى مخربة هدامة. اهـ.

.بحث للشيخ/ أحمد بن عبد العزيز القصير:

.التحقيق في قصة هاروت وماروت:

اختلف المفسرون في قصة هاروت وماروت المذكورين في الآية على أقوال:
الأول: أنهما ملكان نزلا من السماء، وقد اختلف هؤلاء في قصة نزولهما، والذي أنزل عليهما:
1- أن الله تعالى لما أطلع الملائكة على معاصي بني آدم، عجبوا من معصيتهم له مع كثرة أنعمه عليهم، فقال الله تعالى لهم: أما إنكم لو كنتم مكانهم لعملتم مثل أعمالهم، فاختاروا هاروت وماروت، فأهبطا إلى الأرض، وأحل لهما كل شيء، على ألا يشركا بالله شيئًا، ولا يسرقا، ولا يزنيا، ولا يشربا الخمر، ولا يقتلا النفس التي حرم الله إلا بالحق، فعرضت لهما امرأة- وكان يحكمان بين الناس- تخاصم زوجها واسمها بالعربية: الزهرة، وبالفارسية: فندرخت، فوقعت في أنفسهما، فطلباها، فامتنعت عليهما إلا أن يعبدا صنمًا، ويشربا الخمر، فشربا الخمر، وعبدا الصنم، وواقعاها، وقتلا سائبًا مر بهما خافا أن يشهر أمرهما، وعلماها الكلام الذي إذا تكلم به المتكلم عرج به إلى السماء، فتكلمت وعرجت، ثم نسيت ما إذا تكلمت به نزلت فمسخت كوكبًا، قال كعب: فوالله ما أمسيا من يومهما الذي هبطا فيه، حتى استكملا جميع ما نهيا عنه، فتعجبت الملائكة من ذلك، ثم لم يقدر هاروت وماروت على الصعود إلى السماء، فكانا يعلمان السحر.
رويت هذه القصة عن: عبد الله بن مسعود، وكعب الأحبار، وعلي بن أبي طالب، وابن عباس، وعبيد الله بن عتبة، ومجاهد، وعطاء، وقتادة، والسدي، والربيع بن أنس، والكلبي.
وقد رويت هذه القصة عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه من عدة طرق بعضها موقوفًا عليه، وبعضها مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وبعضها عن ابن عمر، عن كعب الأحبار، وقد رويت بألفاظ متقاربة مع اتحاد أصل القصة، وفيما يلي تفصيل هذه الطرق وذكر أقوال النقاد فيها:
الأول: طريق مجاهد، عن ابن عمر، موقوفًا، وقد رُوي عنه من ثلاثة طرق:
1- طريق العوام بن حوشب، عن مجاهد، به. أخرجه سعيد بن منصور في سننه [2/583].
2- طريق المنهال بن عمرو، ويونس بن خباب، كلاهما عن مجاهد، به. أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره [1/ 306].
قال ابن كثير في تفسيره [1/144]: وهذا إسناد جيد إلى عبد الله بن عمر ثم ذكر أنه روي مرفوعًا وقال: وهذا- يعني طريق مجاهد- أثبت وأصح إسنادًا.
الثاني: طريق سعيد بن جبير، عن ابن عمر، موقوفًا.
أخرجه الحاكم في المستدرك [4/650] وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
الثالث: طريق سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، عن كعب، به.
أخرجه عبد الرزاق في تفسيره (1/53)، وابن أبي شيبة في المصنف (8 / 108)، وابن جرير في تفسيره (1/502)، وابن أبي حاتم في تفسيره (1/306) تحقيق د/ أحمد الزهراني، والبيهقي في شعب الإيمان (1 / 181) جميعهم من طريق موسى بن عقبة، عن سالم، عن ابن عمر، عن كعب به.قال الحافظ ابن كثير في تفسيره (1/143)- بعد أن ذكر الحديث من رواية موسى بن جبير، ومعاوية بن صالح، كلاهما عن نافع عن ابن عمر به مرفوعًا- قال: فهذا- يعني طريق سالم- أصح وأثبت إلى عبد الله بن عمر من الإسنادين المتقدمين، وسالم أثبت في أبيه من مولاه نافع، فدار الحديث ورجع إلى نقل كعب الأحبار عن كتب بني إسرائيل والله أعلم.
الرابع: طريق نافع عن ابن عمر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن آدم عليه السلام لما أهبطه الله تعالى إلى الأرض قالت الملائكة أي رب {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} قالوا ربنا نحن أطوع لك من بني آدم قال الله تعالى للملائكة هلموا ملكين من الملائكة حتى يهبط بهما إلى الأرض فننظر كيف يعملان قالوا ربنا هاروت وماروت فأهبطا إلى الأرض ومثلت لهما الزهرة امرأة من أحسن البشر فجاءتهما فسألاها نفسها فقالت لا والله حتى تكلما بهذه الكلمة من الإشراك فقالا والله لا نشرك بالله أبدا فذهبت عنهما ثم رجعت بصبي تحمله فسألاها نفسها فقالت لا والله حتى تقتلا هذا الصبي فقالا والله لا نقتله أبدا فذهبت ثم رجعت بقدح خمر تحمله فسألاها نفسها قالت لا والله حتى تشربا هذا الخمر فشربا فسكرا فوقعا عليها وقتلا الصبي فلما أفاقا قالت المرأة والله ما تركتما شيئا مما أبيتماه علي إلا قد فعلتما حين سكرتما فخيرا بين عذاب الدنيا والآخرة فاختارا عذاب الدنيا».
أخرجه الإمام أحمد- واللفظ له- في مسنده (2/179) حديث (6172). وعبد بن حميد في المنتخب (251). وابن أبى حاتم في العلل (2 / 69). وابن حبان في صحيحه (14/63). والبيهقي في السنن الكبرى (10/40). وفي شعب الإيمان (1 / 180) جميعهم من طريق زهير بن محمد، عن موسى بن جبير، عن نافع، به.
ونقل ابن أبي حاتم في العلل (2 / 69- 70) عن أبيه أنه قال: هذا حديث منكر وقال ابن كثير في تفسيره (1/143) بعد سياقه للحديث: هذا حديث غريب من هذه الوجه ورجاله كلهم ثقات من رجال الصحيحين إلا موسى بن جبير، هذا وهو الأنصاري السلمي مولاهم المدني الحذاء، روى عن ابن عباس، وأبي أمامة سهل بن حنيف، ونافع، وعبد الله بن كعب بن مالك، وروى عنه ابنه عبد السلام وبكر بن مضر، وزهير بن محمد، وسعيد بن سلمة وعبد الله بن لهيعة، وعمرو بن الحارث، ويحيى بن أيوب، وروى له أبو داود، وابن ماجه، وذكره ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (8/139) ولم يحكِ فيه شيئًا من هذا ولا هذا، فهو مستور الحال، وقد تفرد به عن نافع مولى ابن عمر، عن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم. اهـ.
وللحديث طرق أخرى عن نافع ولكنها ضعيفة لا تصلح للمتابعة.
الطريق الأول: أخرجه ابن مردويه في تفسيره [كما في تفسير ابن كثير 1/143] قال: حدثنا دعلج بن أحمد، حدثنا هشام بن علي بن هشام، حدثنا عبد الله بن رجاء، حدثنا سعيد ابن سلمة، حدثنا موسى بن سرجس، عن نافع، عن ابن عمر، سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:... فذكره بطوله.
وفي سنده موسى بن سرجس ذكره ابن حجر في التقريب (2/288) وقال: مدني مستور.
وقد خُولف هشام بن علي في روايته هذه عن عبد الله بن رجاء.
فأخرج البيهقي في شعب الإيمان [1 / 180] من طريق محمد بن يونس بن موسى، حدثنا عبد الله بن رجاء، حدثنا سعيد بن سلمة، عن موسى بن جبير، عن موسى بن عقبة، عن سالم عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذكره بطوله.
وفي سنده محمد بن يونس بن موسى الكديمي، متهم بوضع الحديث. قال ابن حبان: كان يضع الحديث، ولعله قد وضع على الثقات أكثر من ألف حديث. وقال ابن عدي: اتهم بوضع الحديث وبسرقته، وادعى رؤية قوم لم يرهم، ورواية عن قوم لا يعرفون وترك عامة مشايخنا الرواية عنه، ومن حدث عنه نسبه إلى جده موسى بأن لا يعرف. وقال الدارقطني: كان الكديمي يتهم بوضع الحديث، وما أحسن القول فيه إلا من لم يخبر حاله. وقال الذهبي: هالك، قال ابن حبان وغيره: كان يضع الحديث على الثقات.
قال البيهقي بعد سياقه للحديث في الموضع السابق: ورويناه من وجه آخر عن مجاهد، عن ابن عمر موقوفًا عليه، وهو أصح فإن ابن عمر إنما أخذه عن كعب.
الطريق الثاني: يرويه الحسين- وهو سنيد بن داود صاحب التفسير- عن فرج بن فضالة، عن معاوية بن صالح، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعًا.
أخرجه: الخطيب البغدادي في تاريخه (8/42). وابن جرير في تفسيره (1/504).
قال ابن الجوزي في الموضوعات (1 / 186): هذا حديث لا يصح، والفرج بن فضالة قد ضعفه يحيى، وقال ابن حبان: يقلب الأسانيد، ويلزق المتون الواهية بالأحاديث الصحيحة، لا يحل الاحتجاج به، وأما سنيد فقد ضعفه أبو داود، وقال النسائي ليس بثقة. اهـ.
وقال ابن كثير في تفسيره (1/143)- بعد سياقه للطريقين: وهذان أيضًا غريبان جدًا، وأقرب ما يكون في هذا أنه من رواية عبد الله بن عمر عن كعب الأحبار لا عن النبي صلى الله عليه وسلم. اهـ.
وقد اختلف العلماء في حديث ابن عمر:
فرجح جماعة وقفه على ابن عمر، منهم: ابن أبي حاتم في العلل (2 / 69)، والبيهقي في شعب الإيمان (1 / 181)، وابن الجوزي في الموضوعات (1 / 186)، وابن كثير في تفسيره (1/143)، والألباني في الضعيفة (1/204- 207).
وصححه مرفوعًا: ابن حبان في صحيحه (14/63)، والهيثمي في مجمع الزوائد (5 / 68)، وابن حجر في العجاب (1/317، 327، 343)، وفتح الباري (10/235). قال ابن حجر: له طرق كثيرة جمعتها في جزء يكاد الواقف عليه يقطع بوقوع هذه القصة لكثرة طرقه الواردة فيها، وقوة مخارج أكثرها، والله أعلم. اهـ، من القول المسدد، ص (48).
والصواب وقفه على ابن عمر، وهو مما تلقاه عن كعب الأحبار.
وقد أنكر جماعة من المفسرين هذه القصة وعدها من الإسرائيليات المتلقفة عن مسلمة أهل الكتاب، منهم:
الماوردي، وابن حزم، والقاضي عياض، وابن العربي، وابن عطية، وابن الجوزي، والرازي، والقرطبي، والخازن، وأبو حيان، وابن كثير، والبيضاوي، والألوسي، والقاسمي، وسيد قطب، والألباني.
قال الحافظ ابن كثير: وقد روي في قصة هاروت وماروت عن جماعة من التابعين كمجاهد، والسدي، والحسن البصري، وقتادة، وأبي العالية، والزهري، والربيع بن أنس، ومقاتل بن حيان، وغيرهم، وقصها خلق من المفسرين من المتقدمين والمتأخرين، وحاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل، إذ ليس فيها حديث مرفوع صحيح متصل الإسناد إلى الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، وظاهر سياق القرآن إجمال القصة، من غير بسط ولا إطناب فيها، فنحن نؤمن بما ورد في القرآن، على ما أراده الله تعالى، والله أعلم بحقيقة الحال.
2- وقيل: إنهما نزلا بتعليم السحر للناس.
روي ذلك عن: عبد الله بن مسعود، وابن عباس، والحسن البصري، وقتادة، وابن زيد، ورجحه الطبري، والزجاج، والجصاص، والبغوي، والزمخشري، والرازي، والنسفي، والخازن، والبيضاوي، والشوكاني، والسعدي، وابن عثيمين.
3- وقيل: إنهما نزلا بتعليم التفرقة بين المرء وزوجه، لا السحر: روي ذلك عن: ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والكلبي:
القول الثاني: أن المراد بهاروت وماروت، جبريل وميكائيل عليهما السلام، وأن الله تعالى لم ينزل عليهما السحر، خلافًا لما زعمته اليهود، وأن {ما} في قوله تعالى: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ} للنفي.
روي ذلك عن:
ابن عباس، وأبي العالية، وعطية العوفي، وخالد بن أبي عمران، والربيع بن أنس.
القول الثالث: أن المراد بهما: داود وسليمان عليهما السلام، وأن {ما} أيضًا نافية، والمعنى: أن الله تعالى لم ينزل السحر على داود، وسليمان.
روي ذلك عن: عبد الرحمن بن أبزى، وكان يقرأ الآية: {وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلِكَيْنِ} بكسر اللام.
القول الرابع: أن المراد بهما علجان، كانا ببابل ملكين.
روي ذلك عن: الضحاك، والحسن البصري، وأبي الأسود الدؤلي.
القول الخامس: أن المراد بهما رجلان ساحران كانا ببابل.
روي ذلك عن ابن عباس.
الترجيح:
الذي يظهر- والله أعلم- أن هاروت وماروت كانا ملكين من ملائكة السماء أنزلهما الله- عز وجل- إلى الأرض فتنة للناس وامتحانًا، وأنهما كانا يعلمان الناس السحر بأمر الله- عز وجل- لهما.
ولله تعالى أن يمتحن عباده بما شاء كما امتحن جنود طالوت بعدم الشرب من النهر في قوله تعالى: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (259)} وكما امتحن عباده بخلق إبليس وهو أصل الشر، ونهى عباده عن متابعته وحذر منه.
برهان ذلك:
قوله تعالى في الآية: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ}.
فالضمير في قوله: {يُعَلِّمَانِ} وقوله: {مِنْهُمَا} عائد على الملكين؛ لأنهما أقرب مذكور، ولأنه ورد بصيغة التثنية فهو مبدل منهما.
وفي قولهما: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} دليل واضح على أنهما كانا يعلمان السحر، وإلا فما فائدة تحذيرهما من ذلك؟!
وهذا الذي قلنا هو الظاهر المتبادر من السياق، وهو أولى ما حملت عليه الآية.
أن المروي- عن الصحابة والتابعين- في قصة هاروت وماروت، حاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل، ولا يصح فيها حديث مرفوع، والأصل أنه لا يصح حمل الآية على تفسيرات وتفصيلات لأمور مغيبة لا دليل عليها من القرآن والسنة.
أن ما نسب إلى الملكين- بأنهما شربا الخمر، وقتلا، نفسًا وزنيا- غير جائز في حقهما لما تقرر من عصمة الملائكة- عليهم السلام- من ذلك.
فإن قيل: إن تعليم الملكين للسحر كفر، لقوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} وهذا فيه قدح بعصمتهم لأنه لا يجوز عليهم تعليم السحر؟
فجوابه:
أنه ليس في تعليم الملكين للسحر كفر، ولا يأثمان بذلك؛ لأنه كان بإذن الله لهما، وهما مطيعان فيه، وإنما الإثم على من تعلمه من الناس، وقد أخبر سبحانه بأن الملكان كانا ينهيان عن تعلمه أشد النهي، حيث قال: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ}.
وقد بينا من قبل، أن لله سبحانه أن يبتلي عباده بما شاء، ومن ذلك ابتلائهم بملكين يعلمانهم السحر، والله تعالى أعلم. اهـ.